“هل ستقفون إلى جواري؟”
كانت أختي ميلا امرأة عظيمة، عاشت الحياة التي تحلم بها الكثير من النساء، وكانت نجمة رائدة للآلاف بصفتها كاتبة ومدونة ومدربة مهارات حياتية ومصممة أزياء، كما كانت زوجة وأم لثلاثة أولاد، أصيبت بالسرطان وتم تشخيصها في مرحلة متأخرة، فخضعت بعدها لعلاج مكثف واستمرت في دعم الآخرين من خلال مشاركة رحلتها معهم، ورغم أن يومياتها التي بدأت في كتابتها لا تزال غير مكتملة (لانتهاء رحلتها على سطح الأرض فجأة في عام 2018)، إلا أن كلماتها المدونة بلغتنا الروسية الأم موجودة على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي.
لقد استغرق الأمر ما يقرب من عامين لأستجمع قواي لقراءة مذكراتها، ولكنني مستعدة الآن لمشاركة كلماتها معكم بعد ترجمتها لعلها تكون مصدرًا للبصيرة والإلهام.
أناستازيا القيسي
ميلا تومانوفا
مذكراتي في تشرين ثاني 2017
الجزء الأول
ربما ليس من المنطقي أن أكتب مثل هذه اليوميات وسط المعاناة اليومية التي أحياها، لكن أشعر بأنني مضطرة للكتابة، ولا أستطيع النوم حتى أفرّغ ما بداخلي على الورق؛ فكل يوم تتصارع بداخلي مشاعر وأفكار لا تحصى ولا تعد.
حوّلني السرطان إلى فراشة تطير بين عالمين: عالم الأصحاء وعالم غير الأصحاء الذين يترنحون على مسار الحياة الذي رسموه لأنفسهم. أتلقى مئات الرسائل يوميًا من كلا العالمين: رسائل تقدم يد العون وأخرى تطلبها.
إذا كنتم ممن يشعرون بخوف تجاه السرطان أو الموت، فلا أنصحكم بمتابعة القراءة.
أنا هنا لأشاركم خبراتي، وأصور لكم واقع رحلتي التي قد لا تبعث في بعض جوانبها على الأمل أو التفاؤل.
السعي نحو المعرفة
بعد أن أصبحت باحثةً مضطرة عما يتعلق بالسرطان، واجهت العديد من الحقائق التي كنت أجهلها، منها ما أكد لي معتقداتٍ راسخة، ومنها ما اقتلع أفكارًا أخرى حول مواضيع الصحة والحياة.
وتمثلت الصعوبة الرئيسة التي واجهتها كلما كنت أتعمق أكثر فيما يتعلق بالسرطان في كثرة المعلومات المتضاربة، بل وكثرة تناقضات المختصين الذين يصر كل منهم على وجهة نظره ويدعمها بالحجج العلمية.
لست متأكدةً إلا من شيء واحد، وهو أن السرطان ليس مرضًا أحادي البعد، فأسبابه ليست وراثيةً فحسب، ولا تنتج عن اتباع أسلوب حياة غير صحي فقط، بل تتنوع بين هذا وذاك وقد تنتج عن أمور أخرى، وتتطلب طرق علاجه نهجًا متعدد الأبعاد ومتعدد المراحل، ويتعين اتباعه شيئًا فشيئًا مثل حل أحجية معقدة تنبأنا في نهاية المطاف بالحقيقة غير المتوقعة.
أتبوأ دور المحققة التي تجمع الأدلة داخل هذه الأحجية وهذا اللغز، وأشعر وكأنني كلب صيد يشتم رائحة أرنب ويبدأ في مطاردته، إلا أنني في الوقت ذاته أشعر بقلق متزايد.
لا يمكن اتباع مسار واحد فقط في علاج السرطان، سواء كان مسار العلاج الدوائي أو مسار العلاج التغذوي ، لأن السرطان يؤثر على جميع جوانب جسدنا وحياتنا، إلا أن كل طريقة قد تساهم في الشفاء بنسبة خمسة بالمئة أحيانًا وبنسبة تصل إلى 25 بالمئة أحيانًا أخرى. ها أنا أفعل كل ما بوسعي، ثم أعاود سؤال نفسي مرة أخرى: هل ثمة أي شيء آخر يمكنني فعله؟
من واقع التجربة
من المؤكد أنه من المستحيل فعل كل شيء وسط ضباب من النصائح المتناقضة والمعلومات المحيرة، لأن حينها سيسهل علينا أن نضل الطريق أو سنتوقف عن السير قدمًا لأننا لم نعد نرى أن الأمر مجديًا.
خلال معايشتي لهذا “الوحش” لمدة عام ونصف، يمكنني أن أستنتج في هذه المرحلة ما يلي:
1. السرطان هو ماراثون، ولكن ليس بمعنى الجري لفترة طويلة، ولكن بمعنى المثابرة في الجري، فقد أخبرني أن السرطان يسمى“مرض التراخي التدريجي”، لذا عليّ ألا أطوي جناحي، بل أتابع اندفاعي للخروج منتصرةً عليه في سباق طويل المدى
2. من المستحيل عمل كل شيء والسعي وراء كل الاحتمالات، لذا اخترت أن أسير وراء ما تمليه عليّ نفسي، وألا أتوقف طوال الوقت عن المحاولة والتعمق في معرفة نفسي وتقوية ذاتي
3. أرى أن أي شيء سيساهم في شفائي ولو بنسبة خمسة بالمئة فهو قيّم؛ فأنا لا أتوقع أبدًا شفاءً بنسبة مئة بالمئة، لأن توقعاتنا المبالغ فيها لا يمكن أن تتحقق في الواقع، فأنا أتقدم خطوة واحدة للأمام وأجمع قطعة مع قطعة الأحجية في الوقت نفسه
4. عليّ أن أجعل جل اهتمامي على خمسة مستويات من الشفاء سأكتب عنها لاحقًا في دفتر يومياتي
هل ستقفون إلى جواري؟
يبدو كل شيء من الخارج مختلفًا تمامًا عما هو عليه بالفعل، فمثلًا عندما نسير على طول الشوارع ليلًا، فمن الممكن أن ننظر إلى تلك النوافذ المضيئة على أنها لمحة عن ماهية حياة الناس، وهي فكرة رائعة، ولكننا في الوقت نفسه لا نريد أن ننظر في بعض الجوانب الأخرى من هذه الحياة، والتي قد توجد فيها كلمة “سرطان” كلمة السر التي سيختفي عندها هذا الناظر إلى النوافذ المضيئة.
اختفى بعض المعارف المقربين نسبيًا وحتى الأصدقاء من حياتي بعد أن علموا بما حدث لي، وأرسلوا لي برسائل المواساة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي حيث وصلتني الألاف من الرسائل الأخرى؛ فلقد أصبحت مصدر خوف لهم وشخصًا ليسوا مستعدين للتعامل معه، ولست أدري السبب، أهو عدم كفاءتهم في التعامل مع المواقف العاطفية الصعبة أم أحكامهم المسبقة التي يطلقونها بناءً على صورٍ نمطية كونوها مسبقًا، إلا أنني أتفهم ما حدث حتى قول ابني البالغ من العمر سبع سنوات “ماما.. أنا آسف، لكنني لن أبقي بجوارك، فأنا خائف من الإصابة بالسرطان!”
أكتب هذه الخواطر لمرضى السرطان الآخرين مثلي، أكتب أيضًا لمن يسير إلى جانبنا أو بعيدًا عنا، فأنا أطير في المكان الفاصل بين سور الحياة وسور الموت، مكان يؤكد لي معنى الحياة، ويمدني بالغذاء والدواء إن لم يكن لجسدي فلروحي بالتأكيد.