كتبت: نتالي خلف، مستشارة صحة شمولية
لا أحد منا يتذكر اللحظات الأولى من ولادته، وربما لا نرغب في ذلك! ولكن، كيف سيكون شعورنا لو استطعنا استرجاع لحظة النشوة الأولى التي عشناها عندما تمكنا أخيرًا من الزحف أو المشي بعيدًا عن أهلنا ومقدمي الرعاية؟
“منذ اللحظات الأولى للحياة، تنشأ لدينا الرغبة في أن تكون لنا ذات مستقلّة في هذا العالم، في حيوية طاقات نموّنا الفطريّة وفي قوة عضلاتنا المتصلبة وفي أعيننا التي تنظر وآذاننا التي تستمع وأيدينا التي تمتد نحو العالم.”
“لويز ج. كابلان” (من كتاب: “الوحدة والانفصال من الرضيع إلى الفرد”)
يا له من شعور بالحماس والحرية الذي لابد أننا شعرنا به حين تذوقنا الاستقلال لأول مرة، بعد أن كنا نُحمل ونُنقل من مكان إلى آخر دون إرادتنا. قد يبدو الأمر تافهًا الآن، لكنه كان إنجازًا كبيرًا حينها، عندما كنا بعمر 18 – 24 شهرًا.
ولادتنا النفسية
بحسب “لويز ج. كابلان” والعديد من علماء النفس، فإن الفترة بين 18 – 24 شهرًا تمثل “الولادة الثانية” أو الولادة النفسيّة للطفل. في هذه المرحلة، يعيش الطفل أولى لحظات النشوة الحقيقية؛ حيث يدرك لأول مرة أنه كيان منفصل تمامًا عن مقدمي الرعاية.
الوجود خارج دائرة الأهل
حتى هذه اللحظة، لم نكن نعلم أننا موجودون بشكل مستقل عن أمهاتنا وآبائنا، في الواقع، لم نكن نفكر في أي شيء على الإطلاق!
خلال فترة الرضاعة، نكون في حالة اعتماد تام على أهلنا، فلا نحتاج إلى التفكير أو التخطيط لتلبية احتياجاتنا الأساسية. عندما نجوع نجد من يطعمنا، وعندما نشعر بالبرد يتم لفّنا بإحكام، كل شيء يحدث تلقائيًا.
اكتشاف الذات
بين عمر 18 – 24 شهرًا، نمر بمرحلة إدراك هائلة؛ حيث نبدأ في اكتشاف أجزاء أجسادنا والأصوات والمذاقات المختلفة، كما نبدأ في تمييز الأشكال والأشخاص من حولنا. تصبح أجسادنا أقوى وتتطوّر عضلاتنا ونخطو أولى خطواتنا نحو الحريّة الجسديّة.
عندما نتعلم الزحف بعيدًا، أو حتى الوقوف والمشي لبضع خطوات، ندرك أننا كائنات مستقلة لا ترتبط عضويًا بـ “ماما”. لم نعد بحاجة لأن نحمل إلى أي مكان، بل أصبح بإمكاننا الحركة وحدنا، والابتعاد، وربما حتى الهروب، من الكبار ومطالبهم المزعجة!
قلق الانفصال
في هذه المرحلة، يلاحظ الأهل الحماس الكبير على وجوه أطفالهم، فيبدأون في إبعاد الأشياء الثمينة عن متناولهم، خوفًا من أن تتحطم ضمن مغامراتهم الاستكشافية.
لكن هنا تكمن المفارقة، رغم فرحتهم العارمة بالاستقلال، فإن غريزة الطفل تدفعه دائمًا إلى الالتفات للخلف، ليتأكّد أن “ماما” لا تزال قريبة، في متناول النظر؛ فهي مصدر الأمان.
مرساة الأمان لدينا في هذه المرحلة هي الأم والمنزل والعائلة؛ حيث نحتاج دائمًا إلى أن تكون في الأفق أو في أماكن معروفة، لتهدئة المشاعر الجديدة التي نواجهها، أو ما سنختبره لاحقًا على أنه “قلق الانفصال”.
الارتباطات العاطفية الزائفة
وهنا تبدأ أولى الروابط التي ستنعكس لاحقًا على علاقاتنا العاطفية كأشخاص بالغين. عندما نخوض تجارب الحب والعلاقات، سنجد أنفسنا ننجذب إلى أشخاص يمنحوننا شعورًا بالأمان يشبه تمامًا ذلك الذي منحته لنا أمهاتنا في عمر 18 – 24 شهرًا.
نعيش صراعًا بين الحماس لاستكشاف العالم بمفردنا، وبين الاشتياق لذلك الشعور المريح بالأمان والاحتواء. أحيانًا، حتى عندما لا يكون الشخص مناسبًا لنا، نجد صعوبة في التخلي عنه، لأننا نربطه بشكل لا واعٍ بذلك الشعور الأولي بالأمان العاطفي.
كثيرون يظلون في علاقات لمجرد حاجتهم إلى ذلك “المرسى العاطفي” الذي افتقدوه، وهي حاجة تتشكل منذ الطفولة. يتطلب الأمر شجاعة وإيمانًا بالنفس لمواصلة النمو العاطفي والروحي، والخروج إلى العالم كأفراد مستقلين بحق.
نواجه التحديات والمخاوف والمجهول، حتى نجد الشخص الذي يكمل طاقتنا ويشعرنا بـ”المنزل” الحقيقي الذي نستحقه.
إيجاد التوازن
كل مشاعر الأمان والدعم والحب التي قدمها لنا أهلنا في الطفولة، تحولت إلى معنى“المنزل” في أذهاننا، وعندما نلتقي بأشخاص يمنحوننا ذات الشعور، فإننا نرتبط بهم بقوة.
حياتنا تصبح أكثر صحة عندما نجد التوازن بين التمسك بأحبائنا، والتحرر والاستقلال عنهم. ترك مساحة صحية في العلاقات ضروري، فكلنا بحاجة إلى التوازن بين الاعتماد على الآخرين والاعتماد على أنفسنا، حتى نتمكن من بناء علاقات سليمة ومزدهرة.
يمكنكم التواصل مع نتالي خلف على hello@nathaliekhalaf.com