من غ-زة إلى القلب: مواجهة الألم بالحب؟

أحدث المقالات

شارك مع من تحب

كتبت وصورت: شاما كار، معلمة ومدربة كونداليني يوغا ومرشدة صحيّة

بعد مرور عام على مشاهد الحرب والإبادة التي تحدث في غزة، وما يحصل مؤخرًا من الاعتداءات على لبنان، فلا بد أن أقول أنني شعرت على مدار هذا العام بالعجز والأسى العميق والغضب والحزن والألم الشديد، وما زلت أبحث عن العزاء فيما يحصل بالحكم القديمة.

رحلتي في فلسطين 

قبل عدة سنوات، حظيت بفرصة الحصول على دعوة من مجموعة من الفلسطينيين في بيت لحم لإقامة برنامج تدريب معلمي يوغا الكونداليني في “بيت شمس”(منزل النور)، وبينما كنت أشاهد المناظر الخلابة في فلسطين، لم أستطع إلا أن أُفتَن بجمال الأرض وروح الشعب الصامدة.

امتدت رحلتي من رام الله إلى أريحا، ومن نابلس إلى القدس وتل أبيب؛ حيث اكتشفت التباينات الكبيرة بين المناطق الشرقية والغربية، وقد كانت هذه الاختلافات واضحة من خلال العديد من الحواجز والجدار المشؤوم والتحقيقات والفوارق في البنية التحتية.

ومع ذلك، هذا الانقسام ليس جديدًا، فهو موضوع متكرر عبر تاريخ البشريّة؛ فعلى سبيل المثال، تعرّض الملايين من الأفارقة نتيجة تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي للقسوة، كما تم فرض نظام الفصل العنصري والتمييز العرقي في جنوب أفريقيا، ومن جهة أخرى، فقد تمكّنت القوى الاستعمارية، مثل بريطانيا في الهند من استعمار إفريقيا والأراضي الأصليّة في أستراليا، وكما هو الحال في الأمريكيتين، تم استعمار أراضي الأمريكيين الأصليين.

دور اليوغا

في مثل هذه الأزمات والحروب، فإننا نطرح على أنفسنا سؤالًا، كيف نتفاعل نحن، ممارسي اليوغا مع معاناة الآخرين دون أن ننقسم، وإنما نتعاون معًا في سبيل الوحدة؟

أولًا، يجب أن نعترف بأن قيمنا المشتركة، تتمثّل في السلام والرحمة واللاعنف، وبالتالي فإنّ قتل الأرواح البريئة وتفريق العائلات وتهجير الناس وتدمير المنازل، يتنافى مع تطلعات الروح.

فكيف يمكننا استخدام وعينا للتعامل مع عالم يبدو فيه الظلام مسيطرًا ويطغى على نور الوعي؟ تكمن الإجابة في اتّباع بعض أساسيّات اليوغا التي تساعدنا في هذه الأوقات العصيبة:

التعرّف والقبول والاتفاق

تسلّط أساسيّات اليوغا الضوء على قانون الكارما؛ حيث يكون لكل فعل رد فعل، كما أنّ الكارما التي يرثها الإنسان من سبعة أجيال سابقة تستمر في التأثير على الفرد والأمة لسبعة أجيال قادمة.

إذا تبنّينا هذا المنظور، يصبح قبول الوضع الراهن أكثر إمكانيّة حتى لو لم نتمكن من تغيير ما يحدث، كما يمكننا أيضًا التركيز على ما يستيقظ في داخلنا استجابةً للظروف الحاليّة، والموافقة على خدمة مصير أرواحنا في الاتجاه الذي يتم استدعائها بعمق فيه.

العجز

لقد شعر معظمنا بالعجز التام نتيجة الظروف القاسية التي حصلت في غزة على مدار العام، إلا إنّ ممارس اليوغا لا يسعى لاكتساب السلطة على العالم الخارجي، بل لرفع قوته الداخلية والتصرف كقديس قبل أن يكون محاربًا، إنّ الشعور بالعجز هو فرصة للنمو في الوعي، حتى لا نخلق المزيد من الألم والمعاناة في المستقبل.

يمكننا أن نسأل أنفسنا: ما هو دوري فيما يحدث؟ ما القوة التي أملكها للتأثير على تغيير إيجابي في المستقبل؟

وتختلف الإجابة وفقًا للشخص؛ حيث يكون على الأمهات والآباء أن يقوموا بتربية الأطفال على قيم اللاعنف والسلام والتسامح، أما العاملون في مجال السياسة فإنّ عليهم تشكيل سياسات تعزز الحقيقة والمساواة والتعايش المتناغم، بينما يكون على الناشطين في المجتمع السعي لتوجيه الرأي العام نحو العدالة من خلال تعزيز الوحدة، ويكون على العاملين في مجال التأليف صياغة الكلمات التي تعبّر عن الحق والإلهام، بينما على المعلمات والمعلمين توفير الوضوح والحكمة والشفاء لقلوب وعقول من يعانون من آلام الآخرين.

لكلّ شخصٍ منّا مصير فريد، وطريقة يمكن من خلالها استخدام المواهب في خدمة المستقبل بشكل أفضل، ونتيجةً لذلك، لا بد أن نجيب على سؤالين، ما هي طريقتنا في الحصول على مستقبل أفضل؟ وكيف يمكننا إحداث تغيير إيجابيّ في العالم.

من الانفصال إلى الوحدة

من الحكمة أن ندرك أن القمع والعنف كانا دائمًا جزءًا من الوجود الإنساني، مثل التفاعل المستمر بين عناصر الطبيعة كالشمس والقمر أو الفرح والحزن أو الضوء والظلام أو النهار والليل، وهي أمور لا تنفصل.

نتعلّم نتيجة ذلك أنه بدون الحرب قد لا نقدّر السلام حق التقدير، وبدون المعاناة قد نفقد العمق الحقيقي للرحمة، وعلى الرغم من أن العنف مأساوي، إلا إنه يمكن أن يوقظ الإنسانيّة الكامنة في داخلنا، ويسلط الضوء على إمكانياتنا للتغيير والتقدم.

العيش في عصر الدلو

يذكر أحد أشهر ممارسي اليوغا، يوغي بهاجان، أنّ الانتقال إلى عصر الدلو لا يأتي فقط بفرص عظيمة، بل أيضًا بتحديات كبيرة؛ حيث يُعرف هذا العصر بأنه زمن صعود الطاقة الأنثوية، التي تركز بدورها على الابتكار والفرديّة والنموّ الشخصي من أجل التغيير الاجتماعي والحريّة، مع تحوّل نحو القيم الإنسانية بدلًا من الماديّة.

لكننا لم ننتقل جميعًا إلى هذا التغيير؛ حيث لا يزال الكثير منّا يتصرّف وفقًا لأساليب العصر السابق، المعروف بعصر الحوت، حيث تسود الهرمية والتنافس والمكاسب المادية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الانقسام والصراع.

ونتيجةً لذلك العصر ومتطلباته، فإننا قد نلاحظ انقسامًا واضحًا بين أفراد عائلاتنا؛ حيث تحمل الأجيال الجديدة غالبًا قيمًا ومنظورات مغايرة للأجيال الأكبر عمرًا، التي ترتبط أكثر بعصر الحوت.

الفهم من خلال الرحمة 

عصر الدلو يدعونا إلى الفهم من خلال الرحمة، وإلا فقد نسيء تفسير الأوقات التي نعيشها. الرحمة في جوهرها تعني “الشعور بمعاناة”، وهي أن نغمر أنفسنا في آلام الآخرين ونشعر بها كما لو كانت آلامنا، كما تتطلّب منا أن نتخيل أننا نحن من نواجه العنف والقمع والانتهاكات؛ حيث نكون نحن الذين فقدنا منازلنا وأرضنا وعائلاتنا وكرامتنا، وحينها فقط عندها يمكن أن نفهم بصدق ونتشارك في المعاناة مع الآخرين.

القدرة على الشعور بألم الآخر كما لو كان ألمنا هي هبة رائعة، وكأنها نعمة إلهية تتيح لنا أن نتعاطف بصدق مع معاناة الآخرين. لكن بعد أن نشعر بهذا الألم، ما الذي يجب أن يحدث بعد ذلك؟

التحوّل من أنا إلى نحن

لماذا يستمر العطش الذي لا يمكن إخماده للثروة والسلطة في دفع الأفراد والأمم إلى إعطاء الأولوية للمكسب المادي على الحقائق الأساسية؟ هل من الممكن أن “المعرفة الخاطئة” بالواقع تحجب الرؤية وتؤدي إلى الاعتقاد بأن العنف يخدم بصورة أفضل مصالح شخص ما أو شيء ما؟

العقل يسعى دائمًا للفهم، لكن لنتخيّل للحظة أننا نرى العالم من خلال عدسات ملونة؛ حيث يراه بعضنا بالأحمر وبعضنا الآخر بالأسود، وكلا اللونين يحجبان الحقيقة. البعض ينظر إلى العالم من خلال “الأنا” و”لي”، والتي يمكن أن نشير إليها بأنها مرتبطة بالشاكرات الدنيا، بينما يرى آخرون العالم من خلال “نحن” و”لنا”.

في هذه الأوقات، يصبح من الأهمية بمكان أن نركز على “نحن” بدلًا من “هم”. إنه وقت لإيقاظ عضلات مركز القلب، الذي يُعد المفتاح لتحقيق التوازن بين قطبي الأرض والسماء، الرغبات الدنيوية أو التحول الروحي.

في القلب، لا يوجد انقسام. العقل فقط هو الذي يخلق الثنائية. ولكن القلب يشعر بالألم. في عالم سريع الإيقاع وفوضوي، من السهل أن نسقط في حالة من “عدم الإحساس” أو البرودة أو اللامبالاة، وهو ما أشار إليه يوغي بهاجان بالاكتئاب البارد، ويكمن الحل في أن نسمح لنفسنا بالشعور بالألم دون أن نغلق قلوبنا، وأيضًا دون أن نتفاعل بشكل غير واعٍ. عندها يمكننا اختيار كيف نريد أن نتصرف بوعي.

من الألم إلى الحب

في رحلتي الروحية، اكتشفت أن التخدير العاطفي يعمل كدرع ضد الألم الشديد، وهو آليّة دفاعيّة تنشئ مرشحات تجعل الحياة تبدو أكثر احتمالًا، وهذا ما يفسر لماذا يجد البعض الصمت أكثر أمانًا من مواجهة معاناة العالم، ولكن الحقيقة هي أن لكل منا طرقًا وقدرات مختلفة للتعامل مع الألم والمعاناة.

ومن خلال رحلتي الخاصة مع الألم والحب، كان معلمي دائمًا ينصحني بأن أجعل حبي يتقدم بخطوة على ألمي؛ حيث كان يردد كلماته:”عندما يكون الألم كبيرًا جدًا، نشير إلى من تسبب في الأذى بدلًا من تحمل المسؤولية عن ألمنا الخاص، الحقيقة هي أن الألم يظهر وجود القلب لدينا”، شيف شاران سينغ، معلم روحي.

تمارين لتحويل الألم إلى حب

التأمل لشفاء جروح القلب

لشفاء الجروح العاطفية في القلب، فإننا نحتاج إلى تهدئة الأعصاب التي تحمل الجرح، وتساعد تقنيات التأمل المهدئة هذه (كريا من تعاليم يوغي بهاجان، LLC) الجهاز العصبي اللاإرادي على الاسترخاء ويبطئ التنفس إلى وتيرة تأملية، مما يجلب التجديد والراحة للقلب والعقل.

وهي تتمثّل في:

وضعيّة الجلوس: الجلوس في وضعيّة سهلة مع ظهر مستقيم وقفل رقبة خفيف.

مودرا: الكفان متلامسان برفق، ويكون طرف الإصبع الأوسط عند نقطة العين الثالثة، أما الساعدين فيكونان أفقيّان على الأرض، والمرفقان مرتفعان.

ويجب الاستمرار في هذه الوضعيّة لمدة 11 أو 31 أو 62 دقيقة. ثم أخذ نفس عميق والزفير والاسترخاء، ومد الذراعين للأعلى مع الأيدي المتشابكة لمدة دقيقتين.

التعلم من حكمة الماضي 

يميل التاريخ إلى تكرار قانون الكارما؛ حيث تؤدي كل خطوة إلى نتيجة وكل فعل إلى رد فعل، ويمنحنا التكرار فرصًا للتطوّر وتغيير مسارنا، وهذا النمط هو ما يغذي الثورات ويشعل التحولات.

وتمثّل المانترا “سا تا نا ما” في كونداليني يوغا الوجود، التي بدورها تتشكّل في الولادة والحياة والموت والبعث.

وتمامًا مثل تغير الفصول ودورة الحياة، فإن تطورنا مرتبط بالاعتراف بالحاجة إلى التحول. وكما تجدد الأرض نفسها بعد شتاء بارد، فإنّه يجب علينا أيضًا أن نتبنى التغيير من أجل النمو؛ حيث يدعونا عصر الدلو إلى التحرر من الدورات المتكررة، والاعتراف بأن الولادة الجديدة تأتي بعد الموت، تمامًا كما تتفتح أزهار الربيع من بذور الشتاء.

يمكنكم التواصل مع شاما كار على askme@shama-kaur.com

Nakahat Ailiyeh