كتبت: رانية السعدي، اختصاصية صحة نفسية وممارسة في البرمجة اللغوية العصبية
يشعر بعض الأشخاص بالذنب للبقاء على قيد الحياة، وهو إحساس عميق وغالبًا ما يكون ساحقًا، يظهر بعد الأحداث الصادمة عندما يكافح الأفراد مع حقيقة أنهم نجوا بينما لم يتمكن الآخرون من ذلك، وغالبًا ما يكون الناجون من الدائرة المغلقة للشخص، سواءً الأصدقاء المقربين أو أفراد العائلة.
ظلّ يطارد الأرواح
هذا الظاهرة النفسية المعقدة تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، وتظهر بأشكال ودرجات متفاوتة. ويأتي الشعور بالذنب للبقاء على قيد الحياة بعد المرور بكارثة طبيعية أو صراعات حربيّة أو حادث مأساوي، ويمكن أن يلقي الشعور بالذنب بظلال طويلة ومؤلمة على أولئك الذين نجوا من قبضة الموت.
الناجون من الأحداث الصادمة غالبًا ما يجدون أنفسهم في مواجهة مشاعر متباينة تتراوح بين الراحة والامتنان من جهة، والحزن العميق والذنب من جهة أخرى. هذه الصراعات الداخلية تترك الناجين في حالة تساؤل دائم حول عشوائية القدر التي قادتهم للبقاء على قيد الحياة. إنها معضلة نفسية يتحول فيها فعل البقاء إلى مصدر للمعاناة.
أحد العناصر الرئيسية التي تزيد من الشعور بالذنب وتعقّده هو الإحساس العميق بالعجز. ففي المواقف التي لا يمتلك فيها الأفراد أي سيطرة على ما حدث، يكافح الناجون مع فكرة أن نجاتهم كانت محض صدفة، ويتساءلون إن كان بإمكانهم فعل شيء لإنقاذ أحبائهم.
يشبه الأمر فيلمًا يعيد تشغيل نفسه مرارًا في أذهانهم تحت عنوان «ماذا لو؟»، مما يؤدي إلى دورة لا تنتهي من الحزن والندم.
المعاناة الاقتصادية والظلم الثقافي
لا يقتصر شعور الذنب للبقاء على قيد الحياة على المواقف التي تنطوي على خطر جسدي؛ بل يمكن أن يظهر أيضًا في مواجهة تحديات أكثر تجريدًا، مثل الصعوبات الاقتصادية أو الظلم المنهجي والثقافي. في هذه الحالات، قد يشعر الأفراد بالذنب لتحقيقهم النجاح أو الاستقرار بينما يعاني آخرون في دوائرهم المغلقة أو في مجتمعهم.
ثقل الامتياز والإدراك للظلم المنهجي يمكن أن يخلق إحساسًا بالمسؤولية الأخلاقية، والذي إذا تُرك دون معالجة، يتطور إلى شعور بالذنب للبقاء على قيد الحياة.
وقد تجلّى ذلك بشكل واضح في ضوء الأحداث الجارية في غزة؛ حيث يشعر الكثيرون بالعجز وعدم القدرة على فعل أي شيء. ونتيجة لذلك، يجد معظمنا نفسه محاصرًا في دائرة من الألم والغضب.
نشعر بالذنب لأننا نعيش حياتنا بشكل طبيعي، بينما يُباد شعبنا؛ وهو شعور إضافي بالذنب لعدم القدرة على حمايتهم أو إنقاذهم.
الفهم والاعتراف
أفضل طريقة للتعامل مع هذا الشعور بالذنب تجاه ما يحدث في غزة تبدأ أولًا وقبل كل شيء بفهمه والاعتراف به.
أهمية الاعتراف بمعاناة الذنب ومعالجتها هي خطوة أساسية نحو الشفاء، أما تجاهل هذه المشاعر أو قمعها فإنه يؤدي إلى مشاكل طويلة الأمد في الصحة النفسية، مما يؤثر ليس فقط على الأفراد الناجين، بل على المجتمع بأسره.
الاعتراف بأن شعور الذنب للبقاء هو دليل على إنسانيّتنا وتعاطفنا، وهو يمثّل اتصالنا بمجتمعاتنا وأحبائنا. علينا تقدير هذا الشعور واعتباره أمرًا إيجابيًا يمكن تحويله إلى قوة. ومن تلك القوة، يمكنك أن نقدم بلا حدود ودون شروط لمن يحتاجون دعمنا.
القيام بالمساعدة من خلال التحدث والتبرع وجمع الأموال وإحياء ذكرى الراحلين والمفقودين بطرق مختلفة. لسنا عاجزين، وهناك دائمًا الكثير مما يمكننا فعله لتكريم ذكراهم.
في الختام، شعور الذنب للبقاء هو استجابة إنسانية عميقة للمشاعر المعقدة التي تنشأ بعد الأحداث الصادمة. الاعتراف بهذا الشعور ومعالجته أمر ضروري للشفاء الفردي والجماعي. علينا أن نتذكر دائمًا أنه لم يكن بمقدورنا فعل المزيد لتجنب هذه الكوارث التي تحصل في غزة، وأن نساعد بما نستطيع، بإرسال الدعاء والحب.
يمكنكم التواصل مع رانيا السعدي على raniasaadi75@gmail.com