ما وراء التنمر

كتبت: رانية السعدي، اختصاصية صحة نفسية وممارسة في البرمجة اللغوية العصبية

لماذا يتنمر بعض الأطفال، بينما يتعرض الآخرون للتنمر؟ وما هو النهج الفعّال للتعامل مع هذه السلوكيّات؟ فهم الأسباب الكامنة وراء تصرف بعض الأطفال بهذه الطريقة أمر أساسي لمعالجة هذا الأمر بفعاليّة والتعامل معه بشكل صحيح.

وضعيّة البقاء على قيد الحياة
لفهم ديناميكيّة التنمّر بشكل أفضل علينا أن نعود إلى البدايات؛ حيث إننا نجئ إلى هذا العالم ونسعى إلى التواصل مع الآخرين، ونبذل قصارى جهدنا لتجنب الرفض، وبالتالي فإنّ الخوف من الرفض يعود إلى أيام الحياة القبليّة، عندما كان الناس يخرجون للصيد بحثًا عن الطعام، وقد كان عليهم القيام بذلك في مجموعات حرصًا على السلامة.

وفي الظرف المؤسف الذي تم فيه استبعاد شخص ما، كان هذا الشخص يواجه خطر التعرض لهجوم من حيوان بري أو الجوع أو حتى الموت عطشًا؛ لذا فإنّ الانضمام إلى مجموعة هو جزءٌ من أدمغتنا منذ ملايين السنين ويرتبط بالحاجة البدائية للغاية للبقاء على قيد الحياة.

الاحترام والقبول
لهذا السبب، تزداد حاجة أطفالنا إلى التواصل والانتماء إلى مجموعة، وتبدأ هذه الحاجة منذ سن مبكرة وتتطوّر أكثر في سنوات اليفاعة؛ حيث إنّ تمكّن أطفالنا من الانتماء والاندماج في مجموعة، يعطيهم شعورًا باحترامهم وقبولهم ضمن مجتمعاتهم.

يمكن تشبيه المجموعة حاليًّا بالقبيلة سابقًا؛ حيث يحتاج اليافعات واليافعون إلى الانتماء إليها للشعور بالتواصل والأمان، ومن الطرق التي يحدث بها ذلك هي عندما تجد “المجموعة” شخصًا ما لاستبعاده ويتكاتفون لذلك، وبهذه الطريقة يرتبط أعضاء مجموعة المتنمرين لرفض شخص ما، هذا هو المكان الذي يأتي فيه الضغط من الأقران، وينبع لدى الشخص الشعور بالضغط لمضايقة شخص ما لكي ينسجم مع المجموعة، ويعد ذلك أمرًا شائعًا جدًا بين الأطفال واليافعات واليافعين.

العلاقة بين المنزل والتنمّر
تشير الدراسات إلى أنّ معظم الأطفال المتنمرين يعانون من التنمر في المنزل، مما يؤثر على تقديرهم لذاتهم؛ حيث يسعى هؤلاء الأطفال لتعزيز قيمتهم وتقديرهم لذاتهم من خلال التقليل من شأن الآخرين.

وفي معظم الحالات، قد يلجأ الأطفال إلى التنمر كوسيلة لممارسة السلطة أو طلب التقدير أو التعامل مع مخاوفهم أو إحباطاتهم الشخصية.

من المهم أن نفهم أن معرفة نية هذا السلوك لا تجعله مبررًا
أو مقبولًا؛ بل تمنحنا منظورًا جديدًا يمكّننا من التعامل معه بطريقة مدروسة وصحيحة.

يختار المتنمر طفلًا آخر ليكون ضحيته، وعادةً ما يتشارك معه في نفس المخاوف وتقدير الذات المنخفض، وبالتالي فإنّه يعتبر هدفًا سهلًا ليعكس إحباط المتنمر وقلة ثقته بنفسه.

شكرًا للمشاركة
من الأمور التي يجب أن نعلمها لأطفالنا هي أن المتنمرين لا يمكنهم إيذاءهم ما لم يصدقوا كل ما يقولونه ويسمحوا لهذه الكلمات بالتأثير عليهم، وتعد الطريقة الأفضل لإيقاف ما يقوله المتنمر هي الرد بعبارة متكررة:”شكرًا لك على المشاركة”.

تملك هذه العبارة السحريّة القدرة على تفريغ فقاعة المتنمر، وإيقافه عن تصرفاته، لأن كلماته لم تعد لها أي تأثير، ومع ذلك، من المهم أن نفهم أن كلا الطرفين، المتنمر والضحيّة، يعانيان من مشاكل في تقدير الذات، ويمكن مساعدتهما من خلال الاستشارات والعلاج ووسائل أخرى.

كما يجب أن نتذكر أيضًا أن “المتنمر” هو في الحقيقة طفل، والعمل معه لاستعادة ثقته وقيمته الذاتية المفقودة هو الخطوة الأولى لمساعدته على تغيير سلوكه والتخلي عنه.

ما لا يدركه معظم الأشخاص أن قيامنا بتصنيف طفل، يؤدي إلى أن نحد من إمكانياته؛ حيث يصبح هذا التصنيف بمثابة خطة عمل له ومعتقد يؤمن به عن نفسه، ومن خلال التصنيف، فإنّنا نقيّد الطفل في هذا الدور؛ حيث لا يتبقى له سوى أداء سلوكيات تثبت وتعكس هذا المعتقد الداخلي الذي ساهمنا جميعًا في ترسيخه.

من خلال تنفيذ استراتيجيات تركز على الوعي والتعاطف والتدخل، يمكننا مساعدة الأطفال على تطوير آليات التعامل مع الآخرين بشكل صحيّ، وتعزيز ثقافة احترام وتقبّل الغير، وفي النهاية تقليل حالات التنمر في مدارسنا ومجتمعاتنا.

 

يمكنكم التواصل مع رانيا السعدي على raniasaadi75@gmail.com

Nakahat Ailiyeh